الموسيقار “طارق عبدالحكيم” .. من مزارع “الطائف” الى سادس موسيقي في العالم !!

طارق عبدالحكيم: ضابط الجيش والنغم

الأب الروحي للأغنية السعودية .. عازف الموسيقى العسكرية والسلام 

ارتبط بالأشجار والثمار منذ طفولته في المثناة – أحد ضواحي مدينة الطائف- موطن الولادة والنشأة (1918)، فاستسقى منها حب الحياة، وبعث مكنون الجمال في كل ما يقع بين يديه وناظريه ، كان محطة لفت انتباهٍ من صغره حين كان يصدح في مناسبات عدة بفن المجرور والحدري والفرعي ليحظى بتسميته بالرئيس ، وطالما ترأى شخصه واسمه مع كل عزف لمقطوعة السلام الملكي خاصة او أي معزوفة لموسيقى عسكرية عامة ، تفرد بحيازة عمادتين عمادة الجيش وعمادة الفن السعودي وباعث التجديد فيه، وأحد مصممي ملامحه، وجسره الى خارج الحدود ، فكان رحمه الله الأب الروحي للأغنية السعودية.

عندليب الطائف .. ياريم وادي ثقيف، لطيف جسمك لطيف

قال عنه الباحث محمد صادق ذياب «كان طارق عبدالحكيم – يوم كانت مدينة الطائف تتوسد أحلامنا – مَعلًماً من معالمها، ففي يوم من أيام صيف 1961 – ذلك الصيف البعيد- ونحن صغاراً نسجل أسماءنا عشقاً في تلك المدينة، نجمع قروشنا لنستأجر سيارة تُقلُنا من برحة القزاز إلى مقهي شهار لنشاهد الفنان طارق عبدالحكيم كمَعلمٍ من معالم مدينة الطائف ، كان يجلس في صدر ذلك المقهى وسط كوكبة من أصدقائه الفنانيين ، ولم نكن نمتلك الجرأة أطفالاً لدخول ذلك المقهى مكتفيين بالنظر من خلال أسواره ، فنذهب إلى جدة ونتحدث عن مشاهدتنا لطارق عبدالحكيم بعد أن أضفنا للحكاية الكثير من الرتوش لزوم التشويق، فجعلنا تلك الرؤية البعيدة جلسةً فنيةً غنى خلالها أغنيته الشهيرة «ياريم وادي ثقيف، لطيف جسمك لطيف».

 

 

الموسيقار المزارع عائل أسرته بعد وفاة والده .. عمل بائع للخضار والفواكه .. أشتهر بترتيب الفاكهة 

بدأ حياته مزارعاً ومساعداً لوالده فتكونت لديه أولى لبنات تحمل المسؤولية والتي هيأته ليكون مسؤولاً بوجه كامل على عائلته بعد وفاة والده وفي رواية أخرى هجرته إلى العراق، مستمراً في مزاولة حرفتة وبيع ماتجود به الأرض من محاصيل ، مجتهداً في ذلك حتى تمكن من فتح محل لبيع الخضار والفاكهة ، والظريف أن فنياته في ترتيب الفاكهة والخضار وعرضها بطريقة ملفتة جميلة كانت مكمن انبهار المتسوقين ومرتادي محله فأطلقوا عليه اسم الفنان.

أول مبتعث سعودي لدراسة الموسيقى .. أستدعي من خلف مدفعية وزارة الدفاع

كانت الايام تخبئ له بين رحاها المبشرات، متحينة فرصة الظهور المناسب، فحين ألتحق بالمجال العسكري عام 1930 – وكان سبباً في تعريفه بالفن و بذر اول بذور تعلمه العزف أبان عمله في مكة – جاءه استدعاءً حين كان ضابط مدفعية مضادة للدبابات من سمو الامير منصور بن عبدالعزيز فترة ترؤسة لوزارة الدفاع، عارضاً عليه الابتعاث إلى مصر لدراسة الموسيقى في معهد الموسيقى للجيش، الأمر الذي كان محطة تردد من عبدالحكيم زال بإقناع منطقي من الأمير منصور فكانت بعثته إلى مصر عام 1951 للميلاد كأول مبتعث سعودي لدراسة الموسيقى وتذكرة عبوره إلى عالم الفن، عدَها مؤرخون مؤشراً لإنطلاقة حقيقيةً لنهضة الفن السعودي.

في 1375هـ غنت له هيام يونس وهو يدرس الموسيقى في مصر .. وأهدا مصر مقطوعة 

مكث في مصر أربع سنوات مليئة بالتحصيل الموسيقي ومجالسة فنانيين وملحنين وعازفين، وإيذاناً بتفتق نواة الألحان لديه، فأنتاج باكورة ألحانه لأغنية «ياريم وادي ثقيف» والتي غنتها هيام يونس وهو مازال طالباً على كرسي الدراسة، لينهي ابتعاثه عام 1375 محملاً بالمعرفة الموسيقية محتفظاً بصداقات فنية، حاملاَ بين جنبيه وفاء لمصر وأهلها عبر عنه بهدية قدمها للاذاعة المصرية تمثلت في مقطوعات موسيقية مازالت رهن العرض والاستماع ، عائداً إلى وطنه يحدوه الإصرار لرد كريم الابتعاث بعمل مخلص جاد ظهرت بوادره بافتتاح أول معهد موسيقي بقسمه الوتري والنحاسي.

تأسيس الموسيقى السعودية واعادة توزيع السلام الملكي والتحلين عربياً لـ وديع الصافي وسميره توفيق وكارم محمود وصباح ونجاح وفهد بلان وهيام يونس !

أعاد توزيع لحن السلام الملكي وألبسه لباس التطوير ، مساهماً أساسياً في تحديث الموسيقى ونقلها من اللحن السماعي إلى مرحلة النوتة، مكرساً تعلم النوتة الموسيقية لأفراد موسيقى الجيش – ومن باب العلم – كانت موسيقاها وبقيادته تصاحب المستقبلين للضيوف من رؤساء الدول ومبعوثيها فترة حكم الملك سعود بن عبدالعزيز-، مُحدِثاً نقلة كبيرة للفن السعودي عبر إخراجه من حيزه المحلي إلى أفاق عربية أكثر اتساعا، ناثراً ألحانه عبر أصقاع السعودية و العالم العربي ، حيث لم تقتصر ألحانه على فنانيين سعودين كطلال مداح ومحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله بل تعدت إلى ثلة من فنانين وفنانات عرب أمثال وديع الصافي وسميرة توفيق وكارم محمود وصباح ونجاح سلام وفهد بلان وهيام يونس، آخذين في العلم وحسب ما أورده مؤرخون أن ألحانه رحمه الله وصلت – ان لم تتخط – حاجز الخمسمائة ، مُستبقياً منها ألحانا ظلت حبيسة الاحتفاظ بها لنفسه ولم يعطها أحدا.

مؤسس اول فرقة موسيقية سعودية ومدارس موسيقية عسكرية .. وأول فنان عربي وسادس موسيقي على مستوى العالم

يرغمنا طارق عبدالحكيم على تتبع الأولويات كونها لازمته طيلة مشوار الفني بداية من أول من أدخل الموسيقى الوترية للسعودية ، إلى صاحب فكرة تأسيس اول فرقة موسيقية للاذاعة السعودية في مدينتي جدة والرياض تعمل بالنوتة (1961- 1962)، وأول من أرسى لبنات مدرسة للموسيقى تتبع للجيش (1953) وتسلم قيادتها ، ويعد من أوائل المؤسسين لمعاهد التعلم الموسيقي ، مروراً بالملحن السعودي الأول الذي قدم ألحانا لنجوم الطرب المصري ، وصاحب لحن أول أغنية تذاع عبر استديوهات صوت العرب لتتزامن مع التجربة الأولى لنص مغنى من تأليف الامير عبدالله الفيصل ، ليضيف لها أولوية من تغنوا بألحانه فنانيين عرب، ليستمر التألق بحيازته على جائزة اليونسكو في الموسيقى من المنظمة العالمية للمجلس الدولي للموسيقى (1981) كأول فنان عربي وسادس موسيقي على مستوى العالم ،ولم تتوقف الأولوية عند ذلك بل زاد عليها بأولوية بأواول قائد أوركسترا في السعودية ، ليحظى معها برئاسة أول بعثة عسكرية سعودية تزور الولايات المتحدة للتعرف على معاهد الموسيقى العسكرية الأمريكية ، وصولاً إلى عالم المتاحف كأول من أنشأ متحفاً عسكرياً عاماً في مدينة الرياض (1987) وآخر للموسيقى ، إضافة الى إنشائه لمتحف صغير بمساحته ثري بمحتوياته جمع فيه أغان يعود تاريخها إلى بداية القرن العشرين و أسطوانات فنية ومراجع ثرية جعل منزله مأوىً لها، علاوة على حيازة قصب السبق بفكرة وإعداد جغرافية موسيقية لكل منطقة إدارية في المملكة معتمداً في سردها على لهجات أهلها وإيقاعاتهم الشعبية مستعيناً في ذلك بالباحث والمؤرخ عمر الجاسر، مسخراً اهتمامه بإعادة تدوير الموروث المهدد بالإختفاء ، لتحمله الأولوية على جناحها رئيساً للمجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية عام (1983) ولدورتين متتاليتين ، مع العديد والعديد من التكليفات ومهام الاشراف التي قام بها رحمه الله.
كان الوحيد من يشغل المكان دون منافس بأغنياته وحضوره ، صاحب روح مرحة وذاكرة خصبة ومحبا للحياة، تتلمس فيه أصالة الأولين في محياه وتحيته وطريقة حديثه ، إستطاع أن يمرر الأغنية بانسيابة وهدوء في فترة حرب شرسة على الغناء ، باذلاً معرفته في دعم كل فنان ، ذا قدرة رحمه الله في معرفة مايناسب كل منهم من لحن تبعاً لدرجة صوته وأداءه.

الموسيقى والإخلاص لعشقها بعد ان قصى 34 عام من الخدمة للوطن

في عام 1964 أحيل عميد الجيش إلى التقاعد بعد خدمة تخطت أربع وثلاثين عاماً ليستقر حينها في لبنان متفرغاً لحياته الأسرية والفنية إلى أن جاءه استدعاء 1392 من الامير نايف بن عبدالعزيز وتكليفه بتأسيس معهد للموسيقى وآخر التربية البدنية تابعةً للامن العام ، ليُكلف بعد ذلك من قبل الرئاسة العامة لرعاية الشباب عام 1396بإدارة الفنون الشعبية والتي كانت آخر محطاته العملية ليركن بعدها إلى اعتزال تسلم المهام وبدء حياة توقفِ الركض والجنوح للهدوء، فكان يقضي جل وقته في متحفه مستقبلاً كل من تجمعه بهم خيط رفيع من الحب من مشاهير الناس وعامتهم إلى حين سفره إلى القاهرة والتي كانت موطئ قدم وفاته عن عمر يناهز التسعين والدفن فيها شتاء عام .2012.

سقطت آخر اوراق الخريف

وفاته كانت بمثابة سقوط مدوي لهرم كبير من أهرام الأغنية السعودية، ووداعا كان مثار حزن بالغ تغشى جميع محبيه، وجدوا سلوتهم من تجرع فقده في الاستماع الى ألحانه وأغانيه والتي غدت وسيلة وموطن اختيار فنانيين يقنعون بها مستمعيهم بفنهم.

مجلة اليمامة – صادق الشعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *